فصل: (سورة الأنبياء: آية 56):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الزمخشري:

.[سورة الأنبياء: آية 51]:

{وَلَقَدْ آتَيْنا إبراهيم رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51)}.
الرشد: الاهتداء لوجوه الصلاح. قال اللّه تعالى {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ} وقرئ: {رشده}. والرشد والرشد، كالعدم والعدم. ومعنى إضافته إليه: أنه رشد مثله.
وأنه رشد له شأن {مِنْ قَبْلُ} أى من قبل موسى وهرون عليهما السلام. ومعنى علمه به: أنه علم منه أحوالا بديعة وأسرارا عجيبة وصفات قد رضيها وأحمدها، حتى أهله لمخالته ومخالصته، وهذا كقولك في خير من الناس: أنا عالم بفلان. فكلامك هذا من الاحتواء على محاسن الأوصاف بمنزل إِذْ إما أن يتعلق بآتينا، أو برشده، أو بمحذوف، أى: اذكر من أوقات رشده هذا الوقت. قوله: {ما هذِهِ التَّماثِيلُ} تجاهل لهم وتغاب، ليحقر آلهتهم ويصغر شأنها، مع علمه بتعظيمهم وإجلالهم لها. لم ينو للعاكفين مفعولا، وأجراه مجرى ما لا يتعدى، كقولك: فاعلون العكوف لها. أو واقفون لها. فإن قلت: هلا قيل: عليها عاكفون، كقوله تعالى {يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ} قلت: لو قصد التعدية لعدّاه بصلته التي هي على.
ما أقبح التقليد والقول المتقبل بغير برهان، وما أعظم كيد الشيطان للمقلدين حين استدرجهم إلى أن قلدوا آباءهم في عبادة التماثيل وعفروا لها جباههم، وهم معتقدون أنهم على شيء، وجادّون في نصرة مذهبهم، ومجادلون لأهل الحق عن باطلهم، وكفى أهل التقليد سبة أنّ عبدة الأصنام منهم {أَنْتُمْ} من التأكيد الذي لا يصح الكلام مع الإخلال به، لأنّ العطف على ضمير هو في حكم بعض الفعل ممتنع. ونحوه: {اسكن أنت وزوجك الجنة} أراد أن المقلدين والمقلدين جميعا، منخرطون في سلك ضلال لا يخفى على من به أدنى مسكة، لاستناد الفريقين إلى غير دليل، بل إلى هوى متبع وشيطان مطاع، لاستبعادهم أن يكون ما هم عليه ضلالا.

.[سورة الأنبياء: آية 55]:

{قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55)}.
بقوا متعجبين من تضليله إياهم، وحسبوا أن ما قاله إنما قاله على وجه المزاح والمداعبة، لا على طريق الجدّ، فقالوا له: هذا الذي جئتنا به، أهو جدّ وحق، أم لعب وهزل؟

.[سورة الأنبياء: آية 56]:

{قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالأرض الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)}.
الضمير في {فَطَرَهُنَّ} للسماوات والأرض. أو للتماثيل، وكونه للتماثيل أدخل في تضليلهم، وأثبت للاحتجاج عليهم. وشهادته على ذلك: إدلاؤه بالحجة عليه، وتصحيحه بها كما تصحح الدعوى بالشهادة، كأنه قال: وأنا أبين ذلك وأبرهن عليه كما تبين الدعاوى بالبينات، لأنى لست مثلكم، فأقول ما لا أقدر على إثباته بالحجة. كما لم تقدروا على الاحتجاج لمذهبكم، ولم تزيدوا على أنكم وجدتم عليه آباءكم.

.[سورة الأنبياء: الآيات 57- 58]:

{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)}.
قرأ معاذ بن جبل: باللّه. وقرئ: {تولوا}، بمعنى تتولوا. ويقويها قوله: {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ}.
فإن قلت: ما الفرق بين الباء والتاء؟ قلت: أن الباء هي الأصل، والتاء بدل من الواو المبدلة منها، وأن التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب، كأنه تعجب من تسهل الكيد على يده وتأتيه، لأن ذلك كان أمرا مقنوطا منه لصعوبته وتعذره، ولعمري إن مثله صعب متعذر في كل زمان، خصوصا في زمن نمروذ مع عتوّه واستكباره وقوة سلطانه وتهالكه على نصره دينه ولَكِن:
إذا اللّه سنّى عقد شيء تيسّرا

روى أن آزر خرج به في يوم عيد لهم، فبدؤا ببيت الأصنام فدخلوه وسجدوا لها ووضعوا بينها طعاما خرجوا به معهم وقالوا: إلى أن نرجع بركت الآلهة على طعامنا، فذهبوا وبقي إبراهيم فنظر إلى الأصنام وكانت سبعين صنما مصطفة، وثم صنم عظيم مستقبل الباب، وكان من ذهب وفي عينيه جوهرتان تضيئان بالليل، فكسرها كلها بفأس في يده، حتى إذا لم يبق إلا الكبير علق الفأس في عنقه. عن قتادة: قال ذلك سرا من قومه، وروى: سمعه رجل واحد جُذاذًا قطاعا، من الجذ وهو القطع. وقرئ بالكسر والفتح. وقرئ: {جذذا} جمع جذيذ، وجذذا جمع جذة. وإنما استبقى الكبير لأنه غلب في ظنه أنهم لا يرجعون إلا إليه، لما تسامعوه من إنكاره لدينهم وسبه لآلهتهم، فيبكتهم بما أجاب به من قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ} وعن الكلبي إِلَيْهِ إلى كبيرهم. ومعنى هذا: لعلهم يرجعون إليه كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات، فيقولون له: ما لهؤلاء مكسورة ومالك صحيحا والفأس على عاتقك؟ قال هذا بناء على ظنه بهم، لما جرب وذاق من مكابرتهم لعقولهم واعتقادهم في آلهتهم وتعظيمهم لها.
أو قاله مع علمه أنهم لا يرجعون إليه استهزاء بهم واستجهالا، وأن قياس حال من يسجد له ويؤهله للعبادة أن يرجع إليه في حل كل مشكل. فإن قلت: فإذا رجعوا إلى الصنم بمكابرتهم لعقولهم ورسوخ الإشراك في أعراقهم، فأى فائدة دينية في رجوعهم إليه حتى يجعله إبراهيم صلوات اللّه عليه غرضا؟ قلت: إذا رجعوا إليه تبين أنه عاجز لا ينفع ولا يضر، وظهر أنهم في عبادته على جهل عظيم.

.[سورة الأنبياء: آية 59]:

{قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59)}.
أى أن من فعل هذا الكسر والحطم لشديد الظلم، معدود في الظلمة: إمّا لجرأته على الآلهة الحقيقة عندهم بالتوقير والإعظام، وإمّا لأنهم رأوا إفراطا في حطمها وتماديا في الاستهانة بها.

.[سورة الأنبياء: الآيات 60- 61]:

{قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إبراهيم (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)}.
فإن قلت: ما حكم الفعلين بعد {سَمِعْنا فَتًى} وأى فرق بينهما؟ قلت: هما صفتان لفتى، إلا أن الأول وهو {يَذْكُرُهُمْ} لابد منه لسمع، لأنك لا تقول: سمعت زيدا وتسكت، حتى تذكر شيئا مما يسمع. وأمّا الثاني فليس كذلك. فإن قلت: {إبراهيم} ما هو؟ قلت: قيل هو خبر مبتدإ محذوف، أو منادى. والصحيح أنه فاعل يقال، لأن المراد الاسم لا المسمى {عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ} في محل الحال، بمعنى معاينا مشاهدا، أى: بمرأى منهم ومنظر. فإن قلت: فما معنى الاستعلاء في على؟ قلت: هو وارد على طريق المثل، أى: يثبت إتيانه في الأعين ويتمكن فيها ثبات الراكب على المركوب وتمكنه منه {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} عليه بما سمع منه. وبما فعله أو يحضرون عقوبتنا له. روى أنّ الخبر بلغ نمروذ وأشراف قومه، فأمروا بإحضاره.

.[سورة الأنبياء: الآيات 62- 63]:

{قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إبراهيم (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63)}.
هذا من معاريض الكلام ولطائف هذا النوع لا يتغلغل فيها إلا أذهان الراضة من علماء المعاني. والقول فيه أنّ قصد إبراهيم صلوات اللّه عليه لم يكن إلى أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم، وإنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضى يبلغ فيه غرضه من إلزامهم الحجة وتبكيتهم، وهذا كما لو قال لك صاحبك وقد كتبت كتابا بخط رشيق وأنت شهير بحسن الخط: أأنت كتبت هذا وصاحبك أمّىّ لا يحسن الخطّ ولا يقدر إلا على خرمشة فاسدة، فقلت له: بل كتبته أنت، كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع الاستهزاء به، لا نفيه عنك وإثباته للأمّىّ أو المخرمش، لأنّ إثباته- والأمر دائر بينكما للعاجز منكما- استهزاء به وإثبات للقادر، ولقائل أن يقول: غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة مرتبة، وكان غيظ كبيرها أكبر وأشدّ لما رأى من زيادة تعظيمهم له، فأسند الفعل إليه لأنه هو الذي تسبب لاستهانته بها وحطمه لها، والفعل كما يسند إلى مباشره يسند إلى الحامل عليه. ويجوز أن يكون حكاية لما يقود إلى تجويزه مذهبهم، كأنه قال لهم: ما تنكرون أن يفعله كبيرهم. فإنّ من حق من يعبد ويدعى إلها أن يقدر على هذا وأشدّ منه، ويحكى أنه قال: فعله كبيرهم هذا غضب أن تعبد معه هذه الصغار وهو أكبر منها. وقرأ محمد بن السميقع: فعله كبيرهم، يعنى: فلعله، أى فلعلّ الفاعل كبيرهم.

.[سورة الأنبياء: آية 64]:

{فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64)}.
فلما ألقمهم الحجر وأخذ بمخانقهم، رجعوا إلى أنفسهم فقالوا: أنتم الظالمون على الحقيقة، لا من ظلمتموه حين قلتم: من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين.

.[سورة الأنبياء: آية 65]:

{ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65)}.
نكسته: قلبته فجعلت أسفله أعلاهـ. وانتكس: انقلب، أى: استقاموا حين رجعوا إلى أنفسهم وجاءوا بالفكرة الصالحة، ثم انتكسوا وانقلبوا عن تلك الحالة، فأخذوا في المجادلة بالباطل والمكابرة، وأنّ هؤلاء- مع تقاصر حالها عن حال الحيوان الناطق- آلهة معبودة، مضارّة منهم. أو انتكسوا عن كونهم مجادلين لإبراهيم عليه السلام مجادلين عنه، حين نفوا عنها القدرة على النطق. أو قلبوا على رؤسهم حقيقة، لفرط إطراقهم خجلا وانكسارا وانخزالا مما بهتهم به إبراهيم عليه السلام، فما أحاروا جوابا إلا ما هو حجة عليهم. وقرئ: {نكسوا} بالتشديد. و{نكسوا} على لفظ ما سمى فاعله، أى: نكسوا أنفسهم على رؤسهم. قرأ به رضوان ابن عبد المعبود.

.[سورة الأنبياء: الآيات 66- 67]:

{قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67)}.
{أُفٍّ} صوت إذا صوّت به علم أنّ صاحبه متضجر، أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم وبعد وضوح الحق وزهوق الباطل، فتأفف بهم. واللام لبيان المتأفف به. أى: لكم ولآلهتكم هذا التأفف.

.[سورة الأنبياء: الآيات 68- 70]:

{قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلى إبراهيم (69) وَأَرادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْناهُمُ الأخسرين (70)}.
أجمعوا رأيهم- لما غلبوا- بإهلاكه: وهكذا المبطل إذا قرعت شبهته بالحجة وافتضح، لم يكن أحد أبغض إليه من المحق، ولم يبق له مفزع إلا مناصبته، كما فعلت قريش برسول اللّه صلى الله عليه وسلم حين عجزوا عن المعارضة، والذي أشار بإحراقه نمروذ. وعن ابن عمر رضى اللّه عنهما: رجل من إعراب العجم يريد الأكراد. وروى أنهم حين هموا بإحراقه، حبسوه ثم بنوا بيتا كالحظيرة بكوثى، وجمعوا شهرا أصناف الخشب الصلاب، حتى إن كانت المرأة لتمرض فتقول: إن عافاني اللّه لأجمعنّ حطبا لإبراهيم عليه السلام، ثم أشعلوا نارا عظيمة كادت الطير تحترق في الجوّ من وهجها، ثم وضعوه في المنجنيق مقيدا مغلولا فرموا به فيها، فناداها جبريل عليه السلام {يا نارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا} ويحكى. ما أحرقت منه إلا وثاقه. وقال له جبريل عليه السلام حين رمى به: هل لك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا. قال: فسل ربك. قال: حسبي من سؤالى علمه بحالي. وعن ابن عباس رضى اللّه عنه: إنما نجا بقوله: حسبي اللّه ونعم الوكيل، وأطل عليه نمروذ من الصرح فإذا هو في روضة ومعه جليس له من الملائكة، فقال: إنى مقرّب إلى إلهك، فذبح أربعة آلاف بقرة وكفّ عن إبراهيم، وكان إبراهيم صلوات اللّه وسلامه عليه إذ ذاك ابن ست عشرة سنة. واختاروا المعاقبة بالنار لأنها أهول ما يعاقب به وأفظعه، ولذلك جاء: «لا يعذب بالنار إلا خالقها» ومن ثم قالوا {إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ} أى إن كنتم ناصرين آلهتكم نصرا مؤزرا، فاختاروا له أهول المعاقبات وهي الإحراق بالنار، وإلا فرّطتم في نصرتها. ولهذا عظموا النار وتكلفوا في تشهير أمرها وتفخيم شأنها، ولم يألوا جهدا في ذلك. جعلت النار لمطاوعتها فعل اللّه وإرادته كمأمور أمر بشيء فامتثله. والمعنى: ذات برد وسلام، فبولغ في ذلك. كأن ذاتها برد وسلام. والمراد: ابردى فيسلم منك إبراهيم. أو ابردى بردا غير ضارّ. وعن ابن عباس رضى اللّه عنه: لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها. فإن قلت: كيف بردت النار وهي نار؟ قلت: نزع اللّه عنها طبعها الذي طبعها عليه من الحرّ والإحراق، وأبقاها على الإضاءة والاشتعال كما كانت، واللّه على كل شيء قدير. ويجوز أن يدفع بقدرته عن جسم إبراهيم عليه السلام أذى حرّها ويذيقه فيها عكس ذلك، كما يفعل بخزنة جهنم، ويدل عليه قوله: {عَلى إبراهيم} وأرادوا أن يكيدوه ويمكروا به، فما كانوا إلا مغلوبين مقهورين غالبوه بالجدال فغلبه اللّه ولقنه بالمبكت، وفزعوا إلى القوّة والجبروت، فنصره وقوّاه.